فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {بِإِذُنِ الله}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} ففيه سؤالات:
السؤال الأول: الهاء في قوله تعالى: {فإنه} وفي قوله: {نزله} إلى ماذا يعود؟
الجواب فيه قولان: أحدهما: أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية: على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم.
أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله.
قال صاحب (الكشاف): إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته، وثانيهما: المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه.
السؤال الثاني: القرآن: إنما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فما السبب في قوله نزله على قلبك؟ الجواب: هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظًا حتى أداه إلى أمته، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظًا جاز أن يقال: نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه.
السؤال الثالث: كان حق الكلام أن يقال على قلبي، والجواب: جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي، من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك.
السؤال الرابع: كيف استقام قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} جزاء للشرط؟ والجواب فيه وجهان: الأول: أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورًا، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورًا فكيف تليق به العداوة، والثاني: أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك، لأنه نزل عليك الكتاب برهانًا على نبوتك، ومصداقًا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {فإنه نزّله على قلبك} الضمير في {فإنه} عائد على الله عز وجل، والضمير في {نزّله} عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي، وقيل: الضمير في إنه عائد على جبريل وفي {نزله} على القرآن، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف، وجاءت المخاطبة بالكاف في {قلبك} اتساعًا في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف، وإنما يجيء قوله: فأنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في الكلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق الطويل:
ألم تَرَ أنّي يوم جو سويقة ** بكيت فنادتْني هنيدةُ ما ليا

فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة ما لك. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابًا مصدقًا للكتب المتقدمة، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفًا، وأنه نزله خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن الفاء داخلة على السبب، ووقع جزاءًا باعتبار الإعلام والإخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته، وقيل: الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبًا وعنه يقدر مؤخرًا عنه ويكون هو تعليلًا وبيانًا لسبب العداوة والمعنى من عاداه لأنه نزله على قلبك فليمت غيظًا، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوه والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، واحتمل أن يكون {مَن كَانَ عَدُوّا} الخ استفهامًا للاستبعاد، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدًا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم، والضمير الأول البارز لجبريل، والثاني: للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرًا، وقيل: الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى: {مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى} [طه: 2] بل قال: {على قَلْبِكَ} لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناءً على نفي الحواس الباطنة، وقيل: كنى بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله، وقيل: معنى نزله على قلبك جعل {قَلْبِكَ} متصفًا بأخلاق القرآن ومتأدبًا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه» وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} الآية.
ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن في قلب النَّبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة، ونظيرها في ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193- 194] الآية. ولكنه بين في مواضع أخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه، وذلك هو معنى تنزيله على قلبه، وذلك كما في قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16- 19]، وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. اهـ.

.قال في الميزان:

وقوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {بِإِذُنِ الله}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {بِإِذُنِ الله} فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيرة بالعلم لوجوه.
أولها؛ أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.
وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.
وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة. اهـ.

.قال الألوسي:

{بِإِذنِ الله} أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى الإذن في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية، والعلاقة ظاهرة، والمنتخب كما في المنتخب المعنى الأول، والمعتزلة لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الإذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير، والقول: إن الإذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفظ والتفهيم مما لا وجه له. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب دون كتاب، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب، فلم صار بأن يكون مصدقًا لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها؟ قلنا: الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع.
أما قوله تعالى: {وهدى} فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين.
أحدهما: بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى.
وثانيهما: بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى، ولما كان الأول مقدمًا على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى، فإن قيل: ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل؟ الجواب من وجهين: الأول: أنه تعالى إنما خصهم بذلك، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ}.
والثاني: أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين، فلهذا خصهم الله به. اهـ.

.قال الألوسي:

{مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب {مُصَدّقًا} على الحال من الضمير المنصوب في {نَزَّلَهُ} إن كان عائدًا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون حالًا من المحذوف لفهم المعنى كما أشرنا إليه، والثاني: أن يكون حالًا من جبريل، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضًا لما بين يديه من الرسل والكتب.
{وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} معطوفان على {مُصَدّقًا} فهما حالان مثله، والتأويل غير خفي، وخص المؤمنين بالذكر لأنه على غيرهم عمي، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنًا وكتابًا وعربيًا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه. اهـ.

.قال في الميزان:

واعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات وإن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب وإستحقار.
لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الاعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{قل من كان عدوًّا لجبريل}: أجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا: جبريل عدوّنا، واختلف في كيفية ذلك، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو محاورتهم مع عمر؟ وملخص العداوة: أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه، لأنه يأتي بالخصب والسلم، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله، فخرب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على سرنا.
والخطاب بقوله: قل للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعمول القول: الجملة بعدو من هنا شرطية.
وقال الراغب: العداوة، التجاوز ومنافاة الالتئام.
فبالقلب يقال العداوة، وبالمشي يقال العدو، وبالإخلال في العدل يقال العدوان، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي، أي غرباء.
{فإنه نزله}: ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لابد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز.
وقوله: {فإنه نزله على قلبك}، ليس فيه ضمير يعود على من.
وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير.
والضمير في فإنه عائد على جبريل، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه.
ألا ترى إلى قوله: {مصدّقًا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين}؟ وهذه كلها من صفات القرآن.
ولقوله: {بإذن الله}، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله.
وقيل: الضمير في فإنه عائد على الله، وفي نزله عائد على جبريل، التقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك.
وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى.
لكن التقدير الأول أولى، لما ذكرناه، وليكون موافقًا لقوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك} وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ: نزل بالتشديد، والروح بالنصب.
ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوًا لجبريل، فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن.
ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله، أو من كان عدوًّا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك.
والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين: أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك: إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه.
{على قلبك}: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه.
وكانت أبلع من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء.
وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه.
وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد.
وفي الحديث: «إن في الجسد مضغة» ثم قال أخيرًا: «ألا وهي القلب» أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقًا للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} أو يكون إطلاقًا لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة.
وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهرًا، لأن قوله: {من كان عدوًا لجبريل}، هو معمول لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد قال الله من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك.
وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قيل: ما تكلمت به من قولي: {من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك}، وكلامه فيه تثبيج.
وقال ابن عطية: يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق:
ألم تر أني يوم جوّ سويقة ** دعوت فنادتني هنيدة ماليا

فأحرز المعنى، ونكب عن نداء هنيدة مالك.
انتهى كلامه، وهو تخريج حسن، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ: قل، لا لقول: مضمر، وهو ظاهر الكلام {بإذن الله}: أي بأمر الله، اختاره في المنتخب ومنه: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقد صرح بذلك في: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، قاله ابن عطية؛ أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري.
{مصدّقًا لما بين يديه}: انتصاب مصدقًا على الحال من الضمير المنصوب في نزله، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالًا من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقًا.
والثاني: أن يكون حالًا من جبريل.
وما: في لما موصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله، أو التوراة والإنجيل.
والهاء: في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل.
فالمعنى مصدقًا لما بين يديه من الرسل والكتب.
{وهدى وبشرى}: معطوفان على مصدّقًا، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال: وهاديًا ومبشرًا، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى.
والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعى، وهو مصدر.
وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله: {وبشر الذين آمنوا} في أوائل هذه السورة، والمعنى: أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية، وأنه هدى، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى.
فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيبًا وجوديًا.
فالأول: كونه مصدّقًا للكتب، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد.
والثاني: أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق.
والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية.
وقال الراغب: وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة.
{للمؤمنين}: خص الهدى والبشرى بالمؤمنين، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى، كما قال: {وهو عليهم عمى} ولأن المؤمنين هم المبشرون، {فبشر عبادي} {يبشرهم ربهم برحمة منه} ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة.
ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قالوا: وهذه الآية تعلقت بها الباطنية، وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول.
وردّ عليهم: بأنه معجزة ظاهرة بنظمه، وأن الله سماه وحيًا وكتابًا وعربيًا، وأن جبريل نزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل. اهـ.